فصل: ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاق:

في هذه السنة سار الملك رضوان إلى دمشق، وبها أخوه دقاق، عازماً على أخذها منه، فلما قاربها، ورأى حصانتها وامتناعها، علم عجزه عنها، فرحل إلى نابلس، وسار إلى القدس ليأخذه، فلم يمكنه، وانقطعت العساكر عنه، فعاد ومعه باغي سيان، صاحب أنطاكية، وجناح الدولة.
ثم إن باغي سيان فارق رضوان، وقصد دقاق، وحسن له محاصرة أخيه بحلب، جزاء لما فعله، فجمع عساكر كثيرة وسار ومعه باغي سيان، فأرسل رضوان رسولاً إلى سقمان بن أرتق، وهو بسروج، يستنجده، فأتاه في خلق كثير من التركمان، فسار نحو أخيه، فالتقيا بقنسرين، فاقتتلا، فانهزم دقاق وعسكره، ونهبت خيامهم وجميع مالهم، وعاد رضوان إلى حلب، ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق، وبأنطاكية، وقيل كانت هذه الحادثة سنة تسع وثمانين.

.ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوان:

في هذه السنة خطب الملك رضوان في كثير من ولايته للمستعلي بأمر الله العلوي، صاحب مصر.
وسبب ذلك أنه كان عنده الأمير جناح الدولة، وهو زوج أمه، فرأى من رضوان تغيراً، فسار إلى حمص، وهي له، فلما رأى باغي سيان بعده عن رضوان صالحه، وقدم إليه بحلب، ونزل بظاهرها.
وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد، وكان يميل إليه، فقدمه بعد مسير جناح الدولة، فحسن له مذاهب العلويين المصريين، وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم، ويبذلون له المال، وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق، فخطب لهم بشيزر، وجميع الأعمال سوى أنطاكية، وحلب، والمعرة، أربع جمع، ثم حضر عنده سقمان بن أرتق، وباغي سيان، صاحب أنطاكية، فأنكرا ذلك واسعظماه، فأعاد الخطبة العباسية في هذه السنة، وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه.
وسار باغي سيان إلى أنطاكية، فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كانت فتنة عظيمة بخراسان بين أهل سبزوار وأهل خسروجرد، وقتال عظيم، فقتل بينهم جماعة كثيرة، وانهزم أهل خسروجرد.
وفيها قتل عثمان، وكيل دار نظام الملك، وكان سبب قتله أنه كان كاتب صاحب غزنة بالأخبار من قبل السلطان، فأخذ وحبس بترمذ مدة، ثم اطلع عليه وهو في الحبس، أنه كان يكاتبه أيضاً فقتل.
وفي صفر منها قتل عبد الرحمن السميرمي، وزير أم السلطان بركيارق، قتله باطني غيلة، وقتل الباطني بعده.
وفيها، في شعبان، ظهر كوكب كبير له ذؤابة، وأقام يطلع عشرين يوماً، ثم غاب ولم يظهر.
وفيها توفي النقيب الطاهر أبو الغنائم محمد بن عبد الله، وكان ديناً، سخياً، كريماً، متعصباً، حنفي المذهب، وولي النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيذرة.
وفيها توفي أبو القاسم يحيى بن أحمد السيبي وهو ابن مائة سنة وسنتين، وهو صحيح الحواس، وكان مقرئاً، محدثاً، حاضر القلب.
وفيها قتل أرغش النظامي، مملوك نظام الملك، بالري وكان قد بلغ مبلغاً عظيماً بحيث أنه تزوج ابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق، قتله باطني، وقتل قاتله.
وقتل برسق في شهر رمضان، وهو من أكابر الأمراء، قتله باطني، وكان برسق من أصحاب السلطان طغرلبك، وهو أول شحنة كان ببغداد. ثم دخلت:

.سنة إحدى وتسعين وأربعمائة:

.ذكر ملك الفرنج مدينة أنطاكية:

كان ابتداء ظهور دولة الفرنج، واشتداد أمرهم، وخروجهم إلى بلاد الإسلام، واستيلائهم على بعضها، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فملكوا مدينة طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس، وقد تقدم ذكر ذلك.
ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها، وقد ذكرته أيضاً، وتطرقوا إلى أطراف إفريقية، فملكوا منها شيئاً وأخذ منهم، ثم ملكوا غيره على ما تراه.
فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام، وكان سبب خروجهم أن ملكهم بردويل جمع جمعاً كثيراً من الفرنج، وكان نسيب رجار الفرنجي الذي ملك صقلية، فأرسل إلى رجار يقول له: قد جمعت جمعاً كثيراً، وأنا واصل إليك، وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها، وأكون مجاوراً لك.
فجمع رجار أصحابه، واستشارهم في ذلك، وقالوا: وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم وتصبح البلاد بلاد النصرانية. فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال: وحق ديني، هذه خير من كلامكم! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إذا وصلوا إلي أحتاج إلى كفلة كثيرة، ومراكب تحملهم إلى إفريقية، وعساكر من عندي أيضاً، فإن فتحوا البلاد كانت لهم، وصارت المؤونة لهم من صقلية، وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة، وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي، وتأذيت بهم، ويقول تميم غدرت بي، ونقضت عهدي، وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا، وبلاد إفريقية باقية لنا، متى وجدنا قوة أخذناها.
وأحضر رسوله، وقال له: إذا عزمتم على جهاد المسلمين، فأفضل ذلك فتح بيت المقدس، تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر، وأما إفريقية فبيني وبين أهلها أيمان وعهود.
فتجهزوا، وخرجوا إلى الشام، وقيل: إن أصحاب مصر من العلويين، لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها، خافوا، وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه، ويكونوا بينهم وبين المسلمين، والله أعلم.
فلما عزم الفرنج على قصد بلاد الشام، ساروا إلى القسططينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين، ويسيروا في البر، فيكون أسهل عليهم، فلما وصلوا إليها منعهم ملك الروم من الاجتياز ببلاده، وقال: لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إلي أنطاكية، وكان قصده أن يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام، ظناً منه أنهم أتراك لا يبقون منهم أحداً، لما رأى من صرامتهم وملكهم البلاد.
فأجابوه إلى ذلك، وعبروا الخليج عند القسطنطينية سنة تسعين، ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، وهو قونية وغيرها، فلما وصلوا إليها لقيهم قلج أرسلان في جموعه، ومنعهم، فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين، واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني، فسلكوها، وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها.
ولما سمع صاحبها باغي سيان بتوجههم إليها، خاف من النصارى الذي بها، فأخرج المسلمين من أهلها، ليس معهم غيرهم، وأمرهم بحفر الخندق، ثم أخرج من الغد النصارى لعمل الخندق أيضاً، ليس معهم مسلم، فعملوا فيه إلى العصر، فلما أرادوا دخول البلد منعهم، وقال لهم: أنطاكية لكم تهبونها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج، فقالوا له: من يحفظ أبناءنا ونساءنا؟ فقال: أنا أخلفكم فيهم، فأمسكوا، وأقاموا في عسكر الفرنج، فحصروها تسعة أشهر، وظهر من شجاعة باغي سيان، وجودة رأيه، وحزمه، واحتياطه ما لم يشاهد من غيره، فهلك أكثر الفرنج موتاً، ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام، وحفظ باغي سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم، وكف الأيدي المتطرقة إليهم.
فلما طال مقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفظين للأبراج، وهو زراد يعرف بروزبه، وبذلوا له مالاً وأقطاعاً، وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي، وهو مبني على شباك في الوادي، فلما تقرر الأمر بينهم وبين هذا الملعون الزراد، جاؤوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه، وصعد جماعة كثيرة بالحبال، فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق، وذلك عند السحر، وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة، فاستيقظ باغي سيان، فسأل عن الحال، فقيل: إن هذا البوق من القلعة، ولا شك أنها قد ملكت، ولم يكن من القلعة، وإنما كان من ذلك البرج، فدخله الرعب، وفتح باب البلد، وخرج هارباً في ثلاثين غلاماً على وجهه، فجاء نائبه في حفظ البلد، فسأل عنه، فقيل إنه هرب، فخرج من باب آخر هارباً، وكان ذلك معونة للفرنج، ولو ثبت ساعة لهلكوا.
ثم إن الفرنج دخلوا البلد من الباب، ونهبوه، وقتلوا من فيه من المسلمين، وذلك في جمادى الأولى.
وأما باغي سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله، وكان كالولهان، فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ، فقال لمن معه: أين أنا؟ فقيل: على أربعة فراسخ من أنطاكية، فندم كيف خلص سالماً، ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل، وجعل يتلهف، ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين، فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشياً عليه، فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه، فلم يكن فيه مسكة قد قارب الموت فتركوه وساروا عنه، واجتاز به إنسان أرمني كان يقطع الحطب، وهو بآخر رمق، فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى الفرنج بأنطاكية.
وكان الفرنج قد كاتبوا صاحب حلب، ودمشق، بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم، لا نطلب سواها، مكراً منهم وخديعة، حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية.

.ذكر مسير المسلمين إلى الفرنج وما كان منهم:

لما سمع قوام الدولة كربوقا بحال الفرنج، وملكهم أنطاكية، جمع العساكر وسار إلى الشام، وأقام بمرج دابق، واجتمعت معه عساكر الشام، تركها وعربها سوى من كان بحلب، فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك، وجناح الدولة، صاحب حمص، وأرسلان تاش، صاحب سنجار، وسليمان بن أرتق، وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم. فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم، وخافوا لما هم فيه من الوهن، وقلة الأقوات عندهم، وسار المسلمون، فنازلوهم على أنطاكية، وأساء كربوقا السيرة، فيمن معه من المسلمين، وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظناً منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال، فأغضبهم ذلك، وأضمروا له في أنفسهم الغدر، إذا كان قتال، وعزموا على إسلامه عند المصدوقة.
وأقام الفرنج بأنطاكية، بعد أن ملكوها، اثني عشر يوماً لي لهم ما يأكلونه، وتقوت الأقوياء بدوابهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر، فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد، فلم يعطهم ما طلبوا، وقال: لا تخرجون إلا بالسيف.
وكان معهم من الملوك بردويل، وصنجيل، وكندفري، والقمص، صاحب الرها، وبيمنت، صاحب أنطاكية، وهو المقدم عليهم. وكان معهم راهب مطاع فيهم، وكان داهية من الرجال، فقال لهم: إن المسيح، عليه السلام، كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق.
وكان قد دفن قبل ذلك حربة في مكان فيه، وعفى أثرها، وأمرهم بالصوم والتوبة، ففعلوا ذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم، ومعهم عامتهم، والصناع منهم، وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر، فقال لهم: أبشروا بالظفر، فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقف على الباب، فتقتل كل من يخرج، فإن أمرهم الآن، وهم متفرقون، سهل. فقال: لا تفعلوا! أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. ولم يمكن من معاجلتهم، فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه، ومنعهم، ونهاهم.
فلما تكامل خروج الفرنج، ولم يبق بأنطاكية أحد منهم، ضربوا مصافاً عظيماً، فولى المسلمون منهزمين، لما عاملهم به كربوقا أولاً من الاستهانة بهم، والإعراض عنهم، وثانياً من منعهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف، ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم، وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة، لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم. فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة، إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله، وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعة من المجاهدين، وقاتلوا حسبة، وطلباً للشهادة، فقتل الفرنج منهم ألوفاً، وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوتهم.

.ذكر ملك الفرنج معرة النعمان:

لما فعل الفرنج بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرة النعمان، فنازلوها، وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالاً شديداً، ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية، ولقوا منهم الجد في حربهم، والاجتهاد في قتالهم، فعملوا عند ذلك برجاً من خشب يوازي سور المدينة، ووقع القتال عليه، فلم يضر المسلمين ذلك، فلما كان الليل خاف قوم من المسلمين، وتداخلهم الفشل والهلع، وظنوا أنهم إذا تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفة أخرى، ففعلوا كفعلهم، فخلا مكانهم أيضاً من السور.
ولم تزل ننبع طائفة منهم التي تليها في النزول، حتى خلا السور، فصعد الفرنج إليه على السلاليم، فلما علوه تحير المسلمون، ودخلوا دورهم، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف، وسبوا السبي الكثير، وملكوه، وأقاموا أربعين يوماً. وساروا إلى عرقة فحصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدة نقوب، فلم يقدروا عليها، وراسلهم منقذ، صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وساروا إلى حمص وحصروها، فصالحهم صاحبها جناح الدولة، وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا، فلم يقدروا عليها.

.ذكر الحرب بين الملك سنجر ودولتشاه:

كان دولتشاه من أبناء الملوك السلجوقية، فاجتمع عليهم جمع من عساكر بيغو أخي طغرلبك، وكانوا بطخارستان، فأخذوا ولوالج وكمنج، فسار إليهم السلطان سنجر وعساكره. فوصل إلى بلخ، فدخلها في رجب من هذه السنة، وخرج منها لقتال دولتشاه، فلم يكن له من الجموع ما ثبت مقابل عسكر سنجر، فقاتلوا شيئاً من قتال، وانهزموا، وأخذوا دولتشاه أسيراً، وأحضر عند سنجر، فعفا عنه من القتل، وحبسه، ثم بعد ذلك كحله، وسير سنجر جيشاً إلى مدينة ترمذ، فملكوها، وأسلمها إلى طغرلتكين.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة فتح تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، جزيرة جربة وجزيرة قرقنة، ومدينة تونس، وكان بإفريقية غلاء شديد هلك فيه كثير من الناس.
وفيها أرسل الخليفة رسولاً إلى السلطان بركيارق مستنفراً على الفرنج، ومبالغاً في تعظيم الأمر وتداركه قبل أن يزداد قوة.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الحسن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف، ومولده سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وكان فاضلاً في الحديث.
وفيها توفي أبو الفضل عبد الوهاب بن أبي محمد التميمي الحنبلي، وكان فاضلاً، فصيحاً.
وفيها، في شوال، توفي طراد بن محمد الزينبي، وهو عالي الإسناد في الحديث، وولي نقابة العباسيين من بعده ابنه شرف الدين علي بن طراد.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، وكان بيته مجمع الفضلاء وأهل الدين، ومن جملة من كان عنده إلى أن توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
وفيها توفي أبو الفرج سهل بن بشر بن أحمد الاسفراييني، وهو من أعيان المحدثين. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة:

.ذكر عصيان الأمير أُنر وقتله:

لما سار السلطان بركيارق إلى خراسان ولى الأمير أنر بلاد فارس جميعها، وكانت قد تغلب عليها الشوانكارة على اختلاف بطونهم وقبائلهم، واستعانوا بصاحب كرمان إيران شاه بن قاورت، فاجتمعوا، وصافوا الأمير أنر، وكسروه، وعاد مفلولاً إلى أصبهان، وأرسل إلى السلطان يستأذنه في اللحاق به إلى خراسان، فأمره بالمقام ببلد الجبال، وولاه إمارة العراق، وكاتب العساكر المجاورة له بطاعته. فأقام بأصبهان، وسار منها إلى أقطاعه بأذربيجان، وعاد وقد انتشر أمر الباطنية بأصبهان، فندب نفسه لقتالهم، وحصر قلعة على جبل أصبهان.
واتصل به مؤيد الملك بن نظام الملك، وكان ببغداد، فسار منها إلى الحلة، فأكرمه صدقة، وسار من عنده إلى الأمير أنر، فلما اجتمع بالأمير أنر خوفه هو وغيره من السلطان بركيارق، وعظموا عليه الاجتماع به، وحسنوا له البعد عنه، وأشاروا عليه بمكاتبة غياث الدين محمد بن ملكشاه، وهو إذ ذاك بكنجة، فعزم على المخالفة للسلطان، وتحدث فيه، فظهر ذلك، فزاد خوفه من السلطان، فجمع من العساكر المعروفين بالشجاعة نحو عشرة آلاف فارس، وسار من أصبهان إلى الري، وأرسل إلى السلطان يقول: إنه مملوك، ومطيع، إن سلم إليه مجد الملك البلاساني، وإن لم يسلمه إليه فهو عاص خارج عن الطاعة.
فبينما هو يفطر، وكان عادته أن يصوم أياماً من الأسبوع، فلما قارب الفراغ من الإفطار هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم، وهم من جملة خيله، فصدم أحدهم المشعل فألقاه، وصدم الآخر الشمعة فأطفأها، وضربه الثالث بالسكين فقتله، وقتل معه جانداره، واختلط الناس في الظلمة، ونهبوا خزائنه، وتفرق عسكره، وبقي ملقى فلم يوجد ما يحمل عليه، ثم حمل إلى داره بأصبهان، ودفن بها.
ووصل خبر قتله إلى السلطان بركيارق، وهو بخوار الري، قد خرج من خراسان عازماً على قتاله، وهو على غاية الحذر من قتاله وعاقبة أمره، وفرح مجد الملك البلاساني بقتله، وكان له مثل يومه عن قريب، وكان عمر أنر سبعاً وثلاثين سنة، وكان كثير الصوم والصلاة والخير والمحبة للصالحين.

.ذكر ملك الفرنج لعنهم الله البيت المقدس:

كان البيت المقدس لتاج الدولة تتش، وأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التركماني، فلما ظفر الفرنج بالأتراك على أنطاكية، وقتلوا فيهم، ضعفوا، وتفرقوا، فلما رأى المصريون ضعف الأتراك ساروا إليه، ومقدمهم الأفضل بن بدر الجمالي، وحصروه وبه الأمير سقمان، وإيلغازي، ابنا أرتق، وابن عمهما سونج، وابن أخيهما ياقوتي، ونصبوا عليه نيفاً وأربعين منجنيقاً، فهدموا مواضع من سوره، وقاتلهم أهل البلد، فدام القتال والحصار نيفاً وأربعين يوماً، وملكوه بالأمان في شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
وأحسن الأفضل إلى سقمان وإيلغازي ومن معهما، وأجزل لهم العطاء، وسيرهم فساروا إلى دمشق، ثم عبروا الفرات، فأقام سقمان ببلد الرها وسار إيلغازي إلى العراق، واستناب المصريون فيه رجلاً يعرف بافتخار الدولة، وبقي فيه إلى الآن. فقصد الفرنج، بعد أن حصروا عكا، فلم يقدروا عليها، فلما وصلوا إليه حصروه نيفاً وأربعين يوماً، ونصبوا عليه برجين أحدهما من ناحية صهيون، وأحرقه المسلمون، وقتلوا كل من به.
فلما فرغوا من إحراقه أتاهم المستغيث بأن المدينة قد ملكت من الجانب الآخر، وملكوها من جهة الشمال منه ضحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، فبذل لهم الفرنج الأمان، فسلموه إليهم، ووفى لهم الفرنج، وخرجوا ليلاً إلى عسقلان فأقاموا بها.
وقتل الفرنج، بالمسجد الأقصى، ما يزيد على سبعين ألفاً، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم، وعبادهم، وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف، وأخذوا من عند الصخرة نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة، وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة وزنه أربعون رطلاً بالشامي، وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلاً نقرة، ومن الذهب نيفاً وعشرين قنديلاً، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء.
وورد المستنفرون من الشام، في رمضان، إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعد الهروي، فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون، وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا، وبكوا وأبكوا، وذكر ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا، فأمر الخليفة أن يسير القاضي أبو محمد الدامغاني، وأبو بكر الشاشي، وأبو القاسم الزنجاني، وأبو الوفا بن عقيل، وأبو سعد الحلواني، وأبو الحسين بن سماك، فساروا إلى حلوان، فبلغهم قتل مجد الملك البلاساني، على ما نذكره، فعادوا من غير بلوغ أرب، ولا قضاء حاجة.
واختلف السلاطين على ما نذكره، فتمكن الفرنج من البلاد، فقال أبو المظفر الآبيوردي، في هذا المعنى، أبياتاً منها:
مزجنا دماء بالدموع السواجم، ** فلم يبق منا عرضة للمراجم

وشر سلاح المرء دمع يفيضه، ** إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فإيهاً، بني الإسلام، إن وراءكم ** وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

أتهويمة في ظل أمن وغبطة، ** وعيش كنوار الخميلة ناعم

وكيف تنام العين ملء جفونها، ** على هفوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ** ظهور المذاكي، أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان، وأنتم ** تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

وكم من دماء قد أبيحت، ومن دمى ** تواري حياءً حسنها بالمعاصم

بحيث السيوف البيض محمرة الظبى ** وسمر العوالي داميات اللهاذم

وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ** تظل لها الولدان شيب القوادم

وتلك حروب من يغب عن غمارها ** ليسلم، يقرع بعدها سنجر نادم

سللن بأيدي المشركين قواضباً، ** ستغمد منهم في الطلى والجماجم

يكاد لهن المستجن بطيبةٍ ** ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى ** رماحهم، والدين واهي الدعائم

ويجتنبون النار خوفاً من الردى، ** ولا يحسبون العار ضربة لازم

أترضى صناديد الأعاريب بالأذى، ** ويغضي على ذل كماة الأعاجم

ومنها:
فليتهم، إذ لم يذودوا حمية ** عن الدين، ضنوا غيرة بالمحارم

وإن زهدوا في الأجرن إذ حمس الوغى، ** فهلا أتوه رغبة في الغنائم

لئن أذعنت تلك الخياشم للبرى، ** فلا عطسوا إلا بأجدع راغم

دعوناكم، والحرب ترنو ملحةً ** إلينا، بألحاظ النسور القشاعم

تراقب فينا غارة عربية، ** تطيل عليها الروم عض الأباهم

فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه، ** رمينا إلى أعدائنا بالجرائم